فصل: الحديث الثَّامِن عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الرَّابِع عشر:

أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم مِنْ نَوْمِه، فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِناءِ، حتَّى يَغْسِلها ثَلَاثًا، فإنَّه لَا يَدْري أيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مرويّ من ثَلَاثَة طرق:
أَولهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه، فَلَا يغمس يَده فِي الإِناء، حتَّى يغسلهَا، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده».
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي صَحِيحهمَا، بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم فَلْيُفْرِغ عَلَى يَده ثَلَاث مَرَّات، قبل أَن يُدخل يَده فِي إنائه، فإنَّه لَا يدْرِي فيمَ باتت يَده».
وَفِي رِوَايَات لأبي حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه ذكر الْعدَد أَيْضا.
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، بعد أَن سَاقه بِدُونِ «ثَلَاثًا»: لَا أَدْرِي هَذِه اللَّفْظَة فِي الْخَبَر أم لَا؟ ثمَّ سَاقه بعد ذَلِك بأوراق بالسند الْمَذْكُور، وَفِيه لَفْظَة «ثَلَاثًا».
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «فإنَّ أحدكُم لَا يدْرِي أَيْن كَانَت تَطوف يَده».
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قبل أَن يُدخلهما فِي وضوئِهِ».
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي، وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: «مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا».
وَفِي مُسْند أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: ثَنَا شُعْبَة، أَخْبرنِي الْأَعْمَش، عَن ذكْوَان، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدُكُم من مَنَامه، فَلَا يغمس يَده فِي الإِناء حتَّى يصبَّ عَلَيْهَا صبَّة أَو صبتين، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده».
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: رَفعه صَحِيح. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا: «فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده مِنْهُ». وأخرجها الْبَيْهَقِيّ من جِهَة ابْن خُزَيْمَة، وَقَالَ: قَوْله: «مِنْهُ» تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّد بن الْوَلِيد البُسْري، وَهُوَ ثِقَة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: تَفَرَّدَ بهَا شُعْبَة.
وقَالَ ابْن مَنْدَه: هَذِه الزِّيَادَة رواتها ثِقَات، وَلَا أَرَاهَا مَحْفُوظَة.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عدي: «فإنْ غَمَس يَده فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهَا، فليهريق ذَلِك المَاء». قَالَ ابْن عدي: وَهَذِه الزِّيَادَة مُنكرَة، لَا تُحْفَظ. وَهِي من رِوَايَة مُعَلَّى بن الْفضل، وَفِي بعض مَا يرويهِ نكرَة، وَهِي أَيْضا من رِوَايَة الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد قَالَ غير وَاحِد إِنَّه لم يسمع مِنْهُ.
وَفِي رِوَايَة بعد: «فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده»: «ويسمِّي قبل أَن يُدخلها» رَوَاهَا عبيد الله بن سعيد السجسْتانِي فِي الْجُزْء الرَّابِع من فَوَائِد ابْن نطيف وَقَالَ: غَرِيبَة. أَفَادَ ذَلِك الشَّيْخ فِي الإِمام.
قُلْتُ: ورَأَيْتهَا فِي تَارِيخ الْعقيلِيّ، وَقَالَ بعد ذكرهَا: هَذَا الحَدِيث من حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح الْإِسْنَاد من غير وَجه، وَلَيْسَ فِيهِ: «يسمِّي قبل أَن يُدخلها».
وأسنده ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: «إِذا قَامَ أحدكُم من نوم اللَّيْل».
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا قَامَ أحدكُم من النّوم فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ فَلَا يُدخل يَده فِي الإِناء حتَّى يغسلهَا».
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه كَذَلِك، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه أَيْضا بِلَفْظ: «إِذا قَامَ أحدكُم من النّوم، فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ، فَلَا يُدخل يَده فِي وضوئِهِ حتَّى يغسلهَا، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده، وَلَا عَلَى مَا وَضعهَا». قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده حسن.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الله بن عمر رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه، فَلَا يُدْخِل يَده فِي الإِناء حتَّى يغسلهَا».
رَوَاهُ ابْن مَاجَه- أَيْضا- فِي سنَنه كَذَلِك، وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه، وَلَفْظهمَا: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه، فَلَا يُدخل يَده فِي الإِناء حتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده، أَو أَيْن طافت يَده».
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: «فَقَالَ لَهُ رجل: أرأيتَ إنْ كَانَ حوضًا؟ فَحَصَبَه ابْن عمر، وَجعل يَقُول: أخْبرك عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول: أرأيتَ إِن كَانَ حوضًا؟!».
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاد حسن.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لِأَن جَابر بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ مَعَ ابْن لَهِيعَة فِي إِسْنَاده.
وَهَذَا من الْبَيْهَقِيّ تَعْلِيل لحسنه من حَيْثُ لم ينْفَرد بِهِ ابْن لَهِيعَة.
قَالَ إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر بن خُزَيْمَة بعد أَن أخرجه فِي صَحِيحه من جِهَة ابْن لَهِيعَة وَجَابِر بن إِسْمَاعِيل: ابْن لَهِيعَة لَيْسَ مِمَّن أُخْرِجُ حَدِيثه فِي هَذَا الْكتاب- يَعْنِي صَحِيحه- إِذا انْفَرد بالرواية، وَلَكِن جَابر بن إِسْمَاعِيل مَعَه فِي الإِسناد.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق رَابِع لَا بَأْس بالتنبيه عَلَيْهِ، أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة أَيْضا.
وَهَذِه الطَّرِيقَة ذكرهَا ابْن أبي حَاتِم فِي علله، من حَدِيث أبي سَلمَة، عَنْهَا مَرْفُوعا: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من النّوم، فليغرف عَلَى يَده ثَلَاث غرفات قبل أَن يُدخلها فِي وضوئِهِ، فإنَّه لَا يدْرِي حَيْثُ باتت يَده».
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سُئل أَبَا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: إنَّه وهمٌ. وَالصَّوَاب حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده» سَببه مَا قَالَ الإِمام الشَّافِعِي رَضِي اللهُ عَنْهُ وَغَيره: أَن أهل الْحجاز كَانُوا يقتصرون عَلَى الِاسْتِنْجَاء بالأحجار، وبلادهم حارة، فَإِذا نَام أحدهم عرق، فَلَا يَأْمَن النَّائِم أَن تَطوف يَده عَلَى الْمحل النَّجس، أَو عَلَى بَثْرة وقملة، وَنَحْو ذَلِك، فيتنجس.

.الحديث الخَامِس عشر

أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا بَلَغَ الماءُ قلَّتَيْن، بِقِلال هَجَر، لَمْ يَحْمِل خَبَثًا». وَرُوِيَ: «نَجَسًا».
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي الْبَاب قبله.

.الحديث السَّادِس عشر:

«أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأسماء: حُتِّيه، ثُمَّ اقرَصيه، ثُمَّ اغسليه بِالْمَاءِ».
هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من طَرِيقين صَحِيحَيْنِ:
أَحدهمَا: عَن أَسمَاء أَن امْرَأَة سَأَلت. وَالثَّانِي: أَن أَسمَاء سَأَلت.
أما الطَّرِيقَة الأولَى: فأخرجها الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَن أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي اللهُ عَنْهُما قَالَت: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إحدانا يُصِيب ثوبها من دم الْحَيْضَة، كَيفَ تصنع بِهِ؟ قَالَ: تَحُتّه، ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ، ثمَّ تنضحه، ثمَّ تصلِّي فِيهِ».
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد- بِإِسْنَاد عَلَى شَرطهمَا-: «إِذا أصَاب إحداكن الدَّم من الْحيض، فلتقرصه، ثمَّ لتنضحه بِالْمَاءِ، ثمَّ لتصلي».
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَلَى شَرط البُخَارِيّ: «حُتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ، ثمَّ انضحيه».
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: «حُتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ، ثمَّ رشيه، وصلي فِيهِ». قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وصححها ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان أَيْضا.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الثَّوْب يُصِيبهُ الدَّم من الْحَيْضَة، فَقَالَ: لِتَحُتُّه، ثمَّ تَقْرُصُه بِالْمَاءِ، ثمَّ لتَنْضَحْه، فتصلِّي فِيهِ».
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أنَّ امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله، مَا أصنع بِمَا أصَاب ثوبي من دم الْحيض؟ قَالَ: حُتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ، وانضحي مَا حوله».
وَفِي رِوَايَة لأبي عوَانَة فِي صَحِيحه، من حَدِيث الشَّافِعِي عَن مَالك: «إِذا أصَاب ثوبَ إحداكنَّ الدَّم، فلتقرصه، ثمَّ لتتبعه بِالْمَاءِ، ثمَّ تصلِّي فِيهِ».
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه: «سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن دم الْحيض يكون فِي الثَّوْب، قَالَ: اقرصيه، واغسليه، وصلِّي فِيهِ».
وَأما الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: فرواها الإِمام الشَّافِعِي رَضِي اللهُ عَنْهُ، وَهِي فِي مُسْنده عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن هِشَام، عَن فَاطِمَة، عَن أَسمَاء قَالَت: «سَأَلت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن دم الْحَيْضَة يُصِيب الثَّوْب، فَقَالَ: حتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ، ثمَّ رشيه، وصلِّي فِيهِ».
قَالَ الشَّافِعِي: ونا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، أَنه سمع امْرَأَته فَاطِمَة بنت الْمُنْذر تَقول: سمعتُ جدتي أَسمَاء بنت أبي بكر تَقول: «سَأَلت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن دم الْحَيْضَة...» فَذكر مثله.
وَرَوَاهُ فِي الْمسند أَيْضا عَن مَالك، عَن هِشَام، عَن فَاطِمَة، عَن أَسمَاء قَالَت: «سَأَلت امرأةٌ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم...» فَذكره كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد تَقَدَّم.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا فِي الْأُم بِالطَّرِيقِ الأولَى الَّتِي فِي الْمسند.
وَهَذِه الْأَسَانِيد الَّتِي ذكر الشَّافِعِي بهَا هَذِه الزِّيَادَة- أنَّ أَسمَاء هِيَ السائلة- أَسَانِيد صَحِيحَة، لَا مطْعن لأحد فِي اتصالها، وثقات رواتها، فَكُلّهم أَئِمَّة أَعْلَام، مخرج حَدِيثهمْ فِي الصَّحِيح، وَفِي الْكتب السِّتَّة، فَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط أهل الْعلم كلهم، وَأَنا أتعجَّب كل الْعجب من قَول الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي شرح الْمُهَذّب: أنَّ الشَّافِعِي رَوَى فِي الْأُم أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، بِإِسْنَاد ضَعِيف. فالإِسناد الَّذِي ذكره فِي الْأُم كَمَا قدَّمته، عَلَى أَنه- رَحِمَهُ اللَّهُ- قد يُعذر فِي ذَلِك، فإنَّه سبقه إِلَى هَذِه الْمقَالة الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب فقلَّده فِي ذَلِك.
ثمَّ رَأَيْت الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه الْمعرفَة بعد أَن ذكره عَن الشَّافِعِي بِهَذَا السَّنَد وَاللَّفْظ قَالَ: هَكَذَا رَوَى الرّبيع هَذَا الحَدِيث عَن الشَّافِعِي، بِإِسْنَادِهِ، عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر «أَن امْرَأَة سَأَلت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب» وَهُوَ الصَّحِيح.
كَذَلِك رَوَاهُ الْحميدِي، وَغَيره، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
وكَذَلِك رَوَاهُ مَالك وَيَحْيَى بن سعيد وَعبد الله بن نمير ووكيع وَغَيرهم، عَن هِشَام، وَهُوَ مُخَرَّج فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث مَالك وَغَيره. انْتَهَى.
وَمِمَّا يُتعجب أَيْضا إِنْكَار جماعات عَلَى صَاحب الْمُهَذّب، حَيْثُ رَوَى أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، وغَلَّطُوه فِي ذَلِك، وَقد بَانَ غلطُهم بِفضل الله وقوَّته.
بَقِي أَمر آخر- وَهُوَ المهم الْمَطْلُوب- وَهُوَ: أَن هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي أوردهَا الإِمام الرَّافِعِيّ وَغَيره من الْفُقَهَاء فِي هَذَا الحَدِيث وَهِي: «اغسليه بِالْمَاءِ»- وَهِي بَيت القصيد- غَرِيبَة، لَيست مرويَّة فِي الْكتب الْمَشَاهِير، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث- مَعَ من تقدم- الإِمام أَحْمد، وَبَاقِي السّنَن الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم، وَلَيْسَ فِي رواياتهم هَذِه اللَّفْظَة، وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب: إِن هَذِه اللَّفْظَة غير مَحْفُوظَة فِي هَذَا الحَدِيث. لَكِن قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي شرح الْمسند: يرْوَى فِي الْخَبَر هَذِه اللَّفْظَة. فَبَقيت زَمنا متحيِّرًا فِي ذَلِك، نَاوِيا الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ مرّة، ومتوقفًا أُخرى، إِلَى أَن وجدت مَا نَقله، فَخرج عَن عُهْدَة النَّقْل، وَقد أَفَادَ ذَلِك شيخ الإِسلام تَقِيّ الدَّين ابْن دَقِيق الْعِيد فِي كِتَابه الإِمام، فَقَالَ: لَيْسَ من الْأُمَّهَات مَا اشْتهر بَين الْفُقَهَاء فِي هَذَا الحَدِيث: «ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ».
قَالَ: وَمن زعم أَن: «اقرصيه بِالْمَاءِ» مساوٍ فِي الدّلَالَة ل «اغسليه بِالْمَاءِ»، فَقَوله مَمْنُوع، نعم وَقع لنا الْأَمر بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ من رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، قَالَت: سمعتُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلته امْرَأَة عَن دم الْحيض يُصِيب ثوبها، قَالَ: «اغسليه بِمَاء، ثمَّ انضحي فِي سَائِر ثَوْبك، وصَلِّي فِيهِ».
رَوَاهُ أَحْمد بن منيع فِي مُسْنده، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، قَالَ: وَقد رَوَاهُ غَيره عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِغَيْر هَذِه اللَّفْظَة، أَعنِي: «اغسليه».
قُلْتُ: وتعتضد هَذِه الرِّوَايَة بِرِوَايَة أبي عوَانَة، وَابْن مَاجَه المتقدمتين، فإنَّ ظاهرهما مثلهَا.
وَرَأَيْت بعد ذَلِك فِي الْمعرفَة للبيهقي مَا نَصه: وَرَوَى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار، عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أَسمَاء، وَفِيه:
«حتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِمَاء، ثمَّ تنضح فِي سَائِر ثوبها، ثمَّ تصلِّي». فَهَذِهِ رِوَايَة أُخرى عَن ابْن إِسْحَاق، فَيكون اخْتُلف عَلَيْهِ فِي لَفظه.
وَقد وَردت أَيْضا فِي حَدِيث آخر صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، يتَعَيَّن الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي مُسْنده، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمْ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا، من حَدِيث أم قيس بنت مُحصن رَضِي اللهُ عَنْهُا «أَنَّهَا سَأَلت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن دم الْحَيْضَة يُصِيب الثَّوْب، فال: حُكِّيه بضِلَع، واغسليه بِمَاء وَسدر».
قَالَ أَبُو الْحسن ابْن القطَّان: وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث فِي غَايَة من الصِّحَّة، وَلَا أعلم لَهُ عِلّة.
تَنْبِيهَات:
أَولهَا: جمع الإِمامان ابْن الْأَثِير، والرافعي فِي شرحي الْمسند بَين الرِّوَايَتَيْنِ المتقدمتين فِي حَدِيث أَسمَاء بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يُمكن أَن أَسمَاء سَأَلت عَن ذَلِك، وَسَأَلَ غَيرهَا أَيْضا، فيكونا قصتين، فترجع كل رِوَايَة إِلَى سُؤال.
وَالثَّانِي: أَنه يُمكن أَن تَعْنِي أَسمَاء فِي الرِّوَايَة: «أَن امْرَأَة سَأَلت». نَفسهَا، والوجهان محتملان.
ثَانِيهَا: قَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه: الْأَمر بالحتّ والرشّ أَمر ندبٍ لَا حتم، وَالْأَمر بالقَرْص إِنَّمَا هُوَ مقرون بِشَرْطِهِ، وَهُوَ إِزَالَة الْعين، فإزالة الْعين فرض، والقَرْص بِالْمَاءِ نفل إِذا قُدر عَلَى إِزَالَته بِغَيْر قَرْص، وَالْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي ذَلِك الثَّوْب بعد غسله أَمر إِبَاحَة لَا حتم.
قَالَ: وقَوْله فِي حَدِيث أم قيس: «اغسليه بِالْمَاءِ» أَمر فرض، وَذكر السدر والحك بالضلع أَمر ندب وإرشاد.
ثَالِثهَا: الحتّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوق: الحك والقشر، قَالَ الْهَرَوِيّ: حُتِّيه: أَي حُكِّيه.
والقَرْص: الغمز بأطراف الْأَصَابِع، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَرِّصِيه: قَطِّعِيه. وَرُوِيَ: «تَقْرُصه» بِفَتْح التَّاء وَإِسْكَان الْقَاف وَضم الرَّاء، وبضم التَّاء وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: رَوَيْنَاهُ بهما جَمِيعًا.
رَابِعهَا: أُم قيس بنت مُحصن، لم يذكرالحافظ جمال الدَّين الْمزي اسْمهَا، وَهِي آمِنَة، كَمَا قَالَه السُّهيْلي فِي الرَّوْض، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هِيَ جذامة بنت وهب بن مُحصن. فاستفد ذَلِك.
خَامِسهَا: قَوْله فِي حَدِيث أُم قيس: «حُكِّيه بِصَلْع». هُوَ بالصَّاد الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة، بعْدهَا لَام سَاكِنة، ثمَّ عين مُهْملَة. كَذَا ضَبطه صَاحب الإِمام وَهُوَ عِنْدهم الْحجر. قَالَ: وَوَقع فِي بعض الْمَوَاضِع: «بِضِلَع» بالضاد الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة، وَفتح اللَّام.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: لَعَلَّه تَصْحِيف، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى يَقْتَضِي تَخْصِيص الضلع، وَأما الْحجر فَيحْتَمل أَن يُحمل ذكره عَلَى غَلَبَة الْوُجُود، واستعماله فِي الحك.
قُلْتُ: وَمَا زَعمه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين- رَحِمَهُ اللَّهُ- من هَذَا التَّصْحِيف خلاف الْمَنْقُول، فقد ذكره جماعات بالضاد الْمُعْجَمَة، قَالَ الصَّاغَانِي فِي «الْعباب» فِي مَادَّة «ضلع»: وَفِي الحَدِيث «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَ امْرَأَة فِي دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب فَقَالَ: حتيه بضلع». قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الضلع: هُوَ الْعود هَاهُنَا، وَقيل للعود الَّذِي فِيهِ عرض واعوجاج: ضلع، تَشْبِيها بالضلع. وَقَالَ الْأَزْهَرِي فِي تهذيبه فِي الْمَادَّة الْمَذْكُورَة: وَرُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَ امْرَأَة فِي دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب: حتيه بضِلَع» هَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَات، بِكَسْر الضَّاد، وَفتح اللَّام، فَأَخْبرنِي الْمُنْذر، عَن ثَعْلَب، عَن ابْن الْأَعرَابِي، أَنه قَالَ: الضلع: الْعود هَاهُنَا.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أصل الضِّلَع: ضِلَع الْجنب، وَقيل للعود الَّذِي فِيهِ عرض واعوجاج: ضلع تَشْبِيها بالضلع، وَاحِد الأضلاع. وَقَالَ اللَّيْث: هِيَ الصلع والضلع لُغَتَانِ.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فِي بَاب الضَّاد الْمُعْجَمَة مَعَ اللَّام: وَفِي حَدِيث غسل دم الْحيض: «حتيه بضلع»، أَي بِعُود، وَالْأَصْل فِيهِ ضلع الْحَيَوَان، فَسُمي بِهِ الْعود الَّذِي يُشبههُ، وَقد تسكن اللَّام تَخْفِيفًا. وَذكره أَيْضا ابْن الْجَوْزِيّ فِي غَرِيبه فِي بَاب الضَّاد الْمُعْجَمَة.
فقد بَانَ بِهَذَا أَن الرِّوَايَة بالضاد الْمُعْجَمَة، وَأَن الْحَامِل للشَّيْخ تَقِيّ الدَّين عَلَى جعلهَا تصحيفًا قد بَانَ خِلَافه من أَن المُرَاد بالضلع: الْعود، لَا الْعظم نَفسه. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَفِي المستعذب فِي غَرِيب الْمُهَذّب لأبي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الركبي اليمني: فِي الحَدِيث: «حكِّيه وَلَوْ بضلع»: أَي عظم.

.الحديث السَّابِع عشر:

رُوي «أَن نسْوَة رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلْنَه عَن دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب، وذَكَرْنَ لَهُ أنَّ لون الدَّم يَبْقَى، فَقَالَ: أَلْطِخْنَه بزعفران».
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، لَا أعلم من خَرَّجَه بعد الْبَحْث عَنهُ، نعم فِي سنَن أبي دَاوُد بِإِسْنَاد لَا أعلم بِهِ بَأْسا، عَن معَاذَة قَالَت: «سألتُ عَائِشَة عَن الْحَائِض يُصِيب ثوبها الدَّم، قَالَت: تغسله، فإنْ لَمْ يذهب أَثَره فلتغيره بِشَيْء من صُفرة. قَالَت: وَلَقَد كنت أحيض عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث حِيَض، جَمِيعًا، لَا أغسل لي ثوبا».
وَفِي مُسْند الدَّارمِيّ عَن أبي النُّعْمَان، نَا ثَابت بن يزِيد، نَا عَاصِم، عَن معَاذَة العدوية، عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَت: «إِذا غَسَلَتِ الْمَرْأَة الدَّم، فَلم يذهب، فتلغيره بصُفرة ورس أَو زعفران».

.الحديث الثَّامِن عشر:

عَن خَوْلَة بنت يسَار قَالَت: «سَأَلت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن دم الْحيض، فَقَالَ: اغْسِلِيه. فَقلت: أغسله فَيَبْقَى أَثَره؟ فَقَالَ: الماءُ يَكْفِيكِ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَره».
هَذَا الحَدِيث رُوي عَن خَوْلَة رَضِي اللهُ عَنْهُا من طَرِيقين، ولنذكر ذَلِك بِإِسْنَادَيْنِ إِلَيْهَا، لِئَلَّا يَخْلُو الْكتاب من إِسْنَاد:
فأولهما: أَنا بِهِ الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي، وَغير وَاحِد، أَنا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن دَقِيق الْعِيد، أَنا الْمُنْذِرِيّ، أَنا أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ، أَنا زَاهِر بن طَاهِر، أَنا أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ، أَنا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بن أبي إِسْحَاق، أَنا الْأَصَم، أَنا مُحَمَّد بن عبد الحكم، أَنا ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن ابْن أبي حبيب، عَن عِيسَى بن طَلْحَة، عَن أبي هُرَيْرَة: أنَّ خَوْلَة بنت يسَار قَالَت لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أرأيتَ إنْ لَمْ يخرجْ الدَّم من الثَّوْب؟ قَالَ: يَكْفِيك المَاء، وَلَا يَضرك أَثَره».
وَرَوَاهُ يَحْيَى بن عُثْمَان بن صَالح، عَن أَبِيه، عَن ابْن لَهِيعَة. كَذَلِك وَسَنذكر- إِن شَاءَ الله تَعَالَى- أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي عبد الله بن لَهِيعَة فِي آخر بَاب الْوضُوء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَانِ الإِسنادان ضعيفان، تَفَرَّد بهما ابْن لَهِيعَة.
وأَخْبَرْنَاه- أَعلَى من هَذَا بِدَرَجَة- العدْل شهَاب الدَّين، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن هبة الله- بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ- أَنا النجيب عبد اللَّطِيف- حضورًا- أَنا ابْن طبرزذ، أَنا أَبُو الْفَتْح الْوراق، أَنا الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب، نَا ابْن عبد الْوَاحِد، ثَنَا اللؤْلُؤِي، نَا أَبُو دَاوُد، نَا قُتَيْبَة، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عِيسَى بن طَلْحَة، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن خَوْلَة بنت يسَار أَتَت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إنَّه لَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد، وَأَنا أحيض فِيهِ، كَيفَ أصنع؟ قَالَ: إِذا طهرت فاغسليه، ثمَّ صلِّي فِيهِ. قَالَت: فإنْ لم يخرج الدَّم؟ قَالَ: يَكْفِيك المَاء، وَلَا يَضرك أَثَره».
هَذَا الحَدِيث ثَابت فِي سنَن أبي دَاوُد من طَرِيق ابْن الْأَعرَابِي أَيْضا، وَلم يذكرهُ ابْن عَسَاكِر فِي الْأَطْرَاف، وَهُوَ أحد مَا يُستدرك عَلَيْهِ، لَا جرم أنَّ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي ذكره فِي أَطْرَافه مستدركًا عَلَيْهِ.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ: قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: لم يُسْمَع بخولة بنت يسَار إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّانِي: أَنا بِهِ الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي، نَا أَبُو مُحَمَّد بن ساعد، أَنا ابْن خَلِيل الْحَافِظ، أَنا الشَّيْخَانِ: أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الطرسوسي، وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زيد الكراني، قَالَا: أَنا مَحْمُود بن إِسْمَاعِيل الصَّيْرَفِي، أَنا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن فاذشاه، أَنا الطَّبَرَانِيّ، نَا الْحُسَيْن بن إِسْحَاق التسترِي، نَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، نَا عَلّي بن ثَابت الْجَزرِي، عَن الْوَازِع بن نَافِع، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن خَوْلَة بنت حَكِيم، قَالَت: «قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أحيض، وَلَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد. قَالَ: اغسليه، وصلِّي فِيهِ. قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنَّه يَبْقَى فِيهِ أثر الدَّم. قَالَ: لَا يَضرك».
أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه فِي مُسْند خَوْلَة بنت حَكِيم الْأَنْصَارِيَّة، بعد أَن ذكر مُسْند خَوْلَة بنت حَكِيم السلمِيَّة، وَلَيْسَ لهَذَا الحَدِيث فِيهِ ذكر.
وَذكره الْحَافِظ أَبُو نعيم، ثمَّ أَبُو عمر بن عبد الْبر، فِي تَرْجَمَة خَوْلَة بنت يسَار، ثمَّ قَالَ أَبُو عمر: أخْشَى أَن تكون خَوْلَة بنت الْيَمَان، لِأَن إِسْنَاد حَدِيثهمَا وَاحِد، وإنَّما هُوَ: عَلّي بن ثَابت، عَن الْوَازِع بن نَافِع، عَن أبي سَلمَة بِهِ، إلاَّ أنَّ من دون عَلّي بن ثَابت يخْتَلف فِي الْحَدِيثين.
قُلْتُ: الْوَازِع بن نَافِع، قَالَ فِيهِ الْحَرْبِيّ: غَيره أوثق مِنْهُ. وَهَذِه عبارَة عَجِيبَة فَإِنَّهَا لَا تُقال إلاَّ لِمَنْ شُورك فِي الثِّقَة، والوازع هَذَا قَالَ فِيهِ أَحْمد وَيَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ أَحْمد مرّة أُخْرَى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الرَّازِيّ: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِشَيْء. قَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. فَتَلخَّص أنَّ الحَدِيث الْمَذْكُور ضَعِيف من طريقيه.

.الحديث التَّاسِع عشر:

«أنَّ أَعْرَابِيًا بَال فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: صُبّوا عَلَيْه ذنوبًا مِنْ مَاء».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مرويّ من طَرِيقين صَحِيحَيْنِ، لَا مطْعن لأحد فيهمَا:
أَحدهمَا: عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحن فِي الْمَسْجِد مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِي، فَقَامَ يَبُول فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَه مَه، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تُزْرِمُوه دَعوه. فَتَرَكُوهُ حتَّى بَال، ثمَّ إنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ هَذِه الْمَسَاجِد لَا تصلح لشَيْء من هَذَا الْبَوْل وَلَا القذر، إنَّما هِيَ لذكر الله- عزَّ وجلَّ- وَالصَّلَاة، وَقِرَاءَة الْقُرْآن- أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَمَرَ رجلا من الْقَوْم، فجَاء بِدَلْو من مَاء، فشنَّه عَلَيْهِ».
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَاللَّفْظ لمُسلم.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قَامَ أَعْرَابِي فِي الْمَسْجِد فَبَال، فتناوله النَّاس، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: دَعوه وهريقوا عَلَى بَوْله سَجْلًا من مَاء- أَو ذَنُوبًا من مَاء- فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرين، وَلم تُبعَثوا معسرين».
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه مُنْفَردا بِهِ.
وَفِي صَحِيح ابْن حبَان عَنهُ: «دخل أَعْرَابِي الْمَسْجِد، وَرَسُول الله جَالس، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي ولمحمد، وَلَا تغْفر لأحد مَعنا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لقد احتظرت وَاسِعًا. ثمَّ تنحَّى الْأَعرَابِي فَبَال فِي نَاحيَة الْمَسْجِد. فَقَالَ الْأَعرَابِي بعد أَن فَقِهَ الإِسلام: إنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: إِن هَذَا الْمَسْجِد إِنَّمَا هُوَ لِذِكْر الله، وَالصَّلَاة وَلَا يُبَال فِيهِ. ثمَّ دَعَا بسجل من مَاء، فأفرغه عَلَيْهِ».
واعْلَم: أنَّ الإِمام الرَّافِعِيّ لمَّا نَقَل عَن أبي حنيفَة: أَن الأَرْض لَا تطهر حتَّى تُحْفَر إِلَى الْموضع الَّذِي وصلت إِلَيْهِ النداوة، وينقل التُّرَاب. قَالَ: لنا هَذَا الحَدِيث. ثمَّ قَالَ إثره: وَلم يَأْمر بِنَقْل التُّرَاب. انْتَهَى.
وَقد رُوِيَ الْأَمر بذلك من طرق، لَكِنَّهَا مُتَكَلم فِيهَا:
أَحدهَا: عَن عبد الله بن معقل بن مقرن رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قَامَ أَعْرَابِي إِلَى زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسْجِد، فانكشف، فَبَال فِيهَا، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فألقوه، وأهريقوا عَلَى مَكَانَهُ مَاء».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنهمَا. قَالَا: وَعبد الله بن معقل تَابِعِيّ، وَهُوَ مُرْسل. قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ الإِمام أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقد رُوي مَرْفُوعا وَلَا يصحّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي وَائِل، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِي فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَأمر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بمكانه فاحتُفر، وصُبَّ عَلَيْهِ دلو من مَاء، فَقَالَ الْأَعرَابِي: «يَا رَسُول الله، الْمَرْء يحب الْقَوْم ولمَّا يعْمل عَمَلهم. فقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْمَرْء مَعَ من أحب».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه بِإِسْنَاد فِيهِ ضعيفان: أَحدهمَا: سمْعَان بن مَالك، قَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. الثَّانِي: أَبُو هِشَام الرِّفَاعِي، قَالَ البُخَارِيّ: رَأَيْتهمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضعفه.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: لَيْسَ لهَذَا الحَدِيث أصل. وَقَالَ ابو زرْعَة: مُنكر.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ «أَن أَعْرَابِيًا بَال فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: احفروا مَكَانَهُ، ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا من مَاء».
رَوَاهُ ابْن صاعد، عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن أنس.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وهم عبد الْجَبَّار عَلَى ابْن عُيَيْنَة؛ لِأَن أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة الحفَّاظ رَوَوْهُ عَنهُ، عَن يَحْيَى بن سعيد، فَلم يذكر أحد مِنْهُم «الْحفر» وإنَّما رَوَى ابْن عُيَيْنَة هَذَا عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «احفروا مَكَانَهُ» مُرْسلا، فاختلط عَلَى عبد الْجَبَّار المتنان.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: عبد الْجَبَّار هَذَا هُوَ ابْن الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار أَبُو بكر الْعَطَّار الْبَصْرِيّ، أخرج لَهُ مُسلم وَابْن خُزَيْمَة، وَرَوَى لَهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مكي صَالح. وَقَالَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: شيخ. وَسُئِلَ عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل، فَقَالَ: رَأَيْته عِنْد ابْن عُيَيْنَة حسن الْأَخْذ.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدًا، وَلَا ترحم مَعنا أحدا. فَقَالَ لَهُ: وَيحك- أَو وَيلك- لقد حظرت وَاسِعًا. ثمَّ تَنَحَّى الْأَعرَابِي فَبَال قَائِما، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: دَعوه حتَّى يَفْرُغَ من مباله. ثمَّ دَعَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَجْلٍ من مَاء فَصَبَّه عَلَيْهِ».
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه، وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه، وَفِي إِسْنَاده عبيد الله بن أبي حُميد الْهُذلِيّ، وَهُوَ ضَعِيف، سُئِلَ عَنهُ الإِمام أَحْمد فَقَالَ: تُرِكَ حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ مُنكر الحَدِيث، ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
إِذا عرفت طرق هَذَا الحَدِيث، فلنعد إِلَى تَبْيِين مَا وَقع فِيهِ من الْغَرِيب، فَنَقُول:
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَا تُزْرِموه» هُوَ: بِضَم التَّاء، وَإِسْكَان الزَّاي الْمُعْجَمَة، بعْدهَا رَاء مُهْملَة مَكْسُورَة، وَمَعْنَاهُ: لَا تقطعوه. والإِزرام: الْقطع.
و«الدَّلْو» فِيهِ لُغَتَانِ: التَّذْكِير، والتأنيث.
و«الذَّنوب» بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: الدَّلْو إِذا كَانَت الدَّلْو ملأى، قَالَ ابْن سِيده فِي «الْمُحكم»: الذَّنُوب: الدَّلْو فِيهَا مَاء. وَقيل: الذُّنُوب: الدَّلْو الَّذِي يكون المَاء دون ملئها. وَقيل: هِيَ الدَّلْو الملأى. وَقيل: هِيَ الدَّلْو مَا كَانَت. كل ذَلِك مُذَكّر عِنْد اللحياني. قَالَ: وَقد يؤنث الذُّنُوب.
و«السَّجْل» بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة، وبالجيم الساكنة: الدَّلْو الْكَبِيرَة إِذا كَانَ فِيهَا مَاء، قَلَّ أَو كثر، قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهُوَ مُذَكّر، وَلَا يُقَال: سجل إِذا لم يكن فِيهِ مَاء.
و«مَه» كلمة زجر، وَيُقَال: «بِهِ» بِالْبَاء أَيْضا، وَهُوَ اسْم مَبْنِيّ عَلَى السّكُون، مَعْنَاهُ: اسْكُتْ. قَالَ صَاحب الْمطَالع: أَصْلهَا: مَا هَذَا، ثمَّ حذفت تَخْفِيفًا. قَالَ: وَقَالَ يَعْقُوب: هِيَ لتعظيم الْأَمر كبخٍ بخ. وَقد تنوَّن مَعَ الْكسر، ويُنَوَّن الأول ويُكسر الثَّانِي بِغَيْر تَنْوِين.
وَقَوله: «فَشَنَّه عَلَيْهِ» يُروى بالشين الْمُعْجَمَة، والمهملة، وَمَعْنَاهُ: صَبَّه. وفرَّق بعض الْعلمَاء بَينهمَا، فَقَالَ: هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ: الصب فِي سهولة، وبالمعجمة: التَّفْرِيق فِي صبه.
فَائِدَة مهمة يُرحل إِلَيْهَا:
وَهِي أَن الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِد، مَا اسْمه؟ وليُعْلَم أَنه ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، كَذَا سَاقه بِإِسْنَادِهِ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه معرفَة الصَّحَابَة، وَلَا أعلم أحدا ذكره فِي المبهمات، وَهُوَ أحد مَا يسْتَدرك عَلَيْهِم ويُستفاد.